الفلسفة الوضعية

مصطلح الفلسفة الوضعية مشتقة من اللغة الفرنسية من كلمة " positif" والتي تعني " الحقيقة والظاهرة والمُصحَّحة والإيجابية ". اُستعمِل هذا المصطلح لأول مرة من قبل العالِم الفرنسي ومؤسس المدرسة الوضعية سان سيمون. ثم قام تلميذه أوغست كونت بوضع هذا المصطلح في نظام فلسفي.
استطاع كونت تحويل أفكار سان سيمون في إعادة بناء المجتمع من خلال الفلسفة الوضعية إلى نظام موسّع، حيث أن هذا النظام يستند إلى "قانون الحالات الثلاث". حيث بيّن أن الإنسانية تمرّ بثلاث حالات وهي اللاهوت والميتافيزيقيا والعلم. الحالة الأولى والثانية هدامتين وسلبيتين ولكن الثالثة (العلم) بَنّاءة وإيجابية. يدافع كونت عما سبق بأنه في الحالات الثلاث لتطور الفكر في تاريخ الإنسانية، تُعتبر كل حالة متقدمة ومتطورة حسب الحالة التي تسبقها.
يبيّن كونت أن الإنسانية في الحالة اللاهوتية تنسب الأحداث والظواهر إلى قوى خارجة عن الطبيعة، وفي الحالة الميتافيزيقية تربط الأحداث ببعض المفاهيم البعيدة عن الظواهر، وفي الحالة الأخيرة كما الحاجة إلى المعرفة الحقيقية، تعلّمت الإنسانية أن الأحداث التي أرادت تفسيرها مستندة إلى البيانات المستخرجة من تلك الأحداث نفسها. أوضح كونت أنّ هذه الحالة المرتبطة بالأحداث المتطورة هي الحالة الإيجابية التي تديرها الفلسفة الوضعية. يُشبّه كونت هذه المرحلة بمراحل نمو الإنسان عندما يعبر مرحلة الطفولة إلى مرحلة المراهقة ومن مرحلة المراهقة إلى مرحلة البلوغ.
يُشار إلى هذه الحالات وكأنها مراحل تطور تاريخ الإنسانية التي لابد أن يمر بها. ولكن يتم تطويرها ليس فقط من قبل الأفراد إنما من قبل الإنسانية جمعاء. وفقاً لفلسفة كونت تُسمّى الإنسانية بالوجود العظيم، تشكّل الإنسانية ثلاثية مع سطح الأرض والفضاء. تحتل الإنسانية في هذه الثلاثية حسب كونت موقع الألوهية بحيث تستطيع أن تحتل موقع إله الأديان القديمة. لذلك يعرّف كونت الفلسفة الوضعية كدين العلم والإنسانية. كما يقترح الآتي؛ يجب أن يكون هناك نظام حتمي بحيث تتكون إدارته من الفلاسفة الوضعيين وألا تسمح قوانينه بالإضافة إلى بعض الحريات المحدودة بالخروج عن المعتقدات الأساسية لدين الوضعيين. إن فلاسفة العلم حسب ما سبق وبقدر ما تحتاجه مرحلة الوضعية، يمكن أن يتم وضعهم في سلسلة هرمية ويجب أن يكون علم الاجتماع في قمة هذه السلسلة. إذا كان العلم يتنبأ بالظواهر بالحساب، فإن التنبؤات القائمة أيضاً ستجعل الأفعال المرتبطة بالعلم ممكنة.
إن علم الاجتماع الوضعي الذي كان كونت الرائد في تطويره والذي اتخذ علم الطبيعة مبدأً له، يبيّن أنه لا يوجد أي فرق بين الحقيقة الطبيعية والمجتمعية، فالحقيقة المجتمعية كالحقيقة الطبيعية ذات قوانين سببية ثابتة. إن مفهوم الوضعية يدافع عما سبق حيث أنه يمكن بلوغ هذه القوانين من خلال استخدام الطرق العلمية وبالتالي يمكن تطوير التنبؤات حول المجتمع والتحكم بالأحداث المجتمعية.
الأسس الفكرية والفلسفية للفلسفة الوضعية:
- المعرفة الوحيدة والحقيقية هي المعرفة العلمية.
- العنصر الأساسي للمعرفة هي الظاهرة؛ إن الأفكار الميتافيزيقية واللاهوتية ليست أكثر من أفكار نظرية ولا معنى لها.
- لا يمكن أن يكون للفلسفة منهجاً يخالف العلم؛ وظيفتها توفير قوانين عامة ومشتركة لجميع العلوم.
- هناك منهج كوني وحيد وواضح، وهذا المنهج ينطبق على العلوم الطبيعية والبشرية أيضاً؛ يمكن فهم جميع العلوم من خلال الفيزياء.
- يتكون الواقع من ظواهر تخضع للحواس والتجارب. إن المفاهيم مثل الجوهر والروح والميتافيزيقيا والسبب ليس لها قوة تفسير علمية.
- ليس للمعرفة مرجع صحيح سوى كونها مواد جزئية ومحسوسة. العالم المعروف يتكون من ظواهر جزئية ومراقَبة. إن المفاهيم العلمية المجرّدة ليست أكثر من أسلوب جمع وتسجيل التجارب.
- اتحاد الأساليب العلمية. يوجد أسلوب بحث علمي واحد لجميع المجالات التجريبية. لا يمكن الافتراض أن هناك أكثر من طريقة مع الادعاء بأن المجالات التي تنتمي إلى بعض العلوم لها اختلافات نوعية وخصائص فريدة. الطريقة العلمية المثالية هي طريقة العلوم الفيزيائية.
مع مرور الأيام يزول تأثير الفلسفة الوضعية على علم الاجتماع. يتم نقد الفلسفة الوضعية من عدة جبهات بسبب ارتباطاتها الفكرية والفلسفية والسياسية. لأن الأبحاث التي لايمكن مراقبتها تبقى سطحية وبالتالي يمكن الحصول على نتائج خاطئة. يعتقد علماء الاجتماع الحاليون أنه يجب استخدام عدة أساليب معاً في النشاطات التي تمارس على المجتمع. مثال؛ عندما يُمارس نشاط في مجال ما، يحاول علماء الاجتماع الحاليون الأخذ بعين الاعتبار جميع عناصر ثقافة المجتمع الذي يُنفذّ عليه ذلك النشاط. أي أنهم لا يرون كل المجتمعات كاستمرارية "حقيقة واحدة" مثل كونت.
الانتقادات الموجهة للفلسفة الوضعية:
وجّه الكثير من علماء الاجتماع والفلاسفة والعلماء وغيرهم منذ البداية وحتى الآن انتقادات موسّعة للفلسفة الوضعية، ولكن أكثر الانتقادات وأشدها حدّة كانت من قبل مدرسة فرانكفورت.
انتقادات مدرسة فرانكفورت للفلسفة الوضعية:
- الفلسفة الوضعية تأخذ ما هو موجود فقط، ترى ما هو موجود صحيحاً وتقدّسه.
- تدافع عن النظام ضد التغيير، ترى أن النظام المهيمن هو أمر طبيعي، تضع الحالة مكان الحقيقة وتسدّ المجال أمام التحوّل الاجتماعي.
الدفاع عن النظام ضد التغيير ، واعتبار النظام المهيمن طبيعيًا ، واستبدال الوضع الراهن كواقع ، ومنع التحول الاجتماعي لصالح الرأسمالية
- تشرح الوجود بالظواهر، وتهمل الجوهر وترفض الميتافيزيقيا وتقدّس الظاهرة كالصنم.
- ترفض الميتافيزيقيا.
- تضع الفلسفة تحت سيطرة العلم وتحاول تكييف الفلسفة مع الظاهرة.
- ترى المجتمع من منظور مادي، وترى الأفراد الاجتماعيين الذين لهم دور في التحول الاجتماعي كمواد وتنفي الإرادة الحرّة.
- تفصل الأحداث والظواهر عن القيم وتجسّد العالم كمفعول به.
- تضع حدوداً للعلم وتجعل العقل والمعرفة أدوات.
- تتنبأ بالأشياء المجهولة وتتجنب النقد.
- تعتبر العلم هو الأسلوب الصحيح والوحيد وتقبله باعتباره السبب الرئيسي للتقدم.
- تتعامل مع الناس بطريقة آلية وحتمية.
- ترتبط مبادئ الفلسفة الوضعية ارتباطاً وثيقاً بالفكر البرجوازي.
- يُعتبر مبدأ التحقق القائم على الاكتشاف كافياً لشرح الوجود.
سِنان شاهين