تاريخ التربية في كردستان
"أنا لا أقول لكم ثقوا بي، بل أقول لكم تعلّموا المُساءلة"
إنّ حقيقة الحقائق المجتمعية هي الحقائق التي تشكلت وهي الموضوع الذي دائماً يكرره العلماء الاجتماعيين. حيث تمّ هذا التشكل على يد الإنسان ويُطلق على كافة هذه التشكلات " ثقافة". يطور الإنسان هذه الحقائق المجتمعية التي خلقها في الحياة من خلال التدريب وينقلها إلى الجيل الذي يليه. كما أنّه من خلال التدريب تتجمع هذه الإبداعات وتتحول إلى حقائق جديدة، وهي نفسها الحالة التي يطلق عليها "التقدم". كما وضّحنا سابقاً فإنّ التدريب هو مُحرّك التطور والتقدم. فالهدف هو" إنّ التدريب هو ثمرة للمستقبل".
حينها يجب على المرء أن يقوم بالبحث عن الإجابات على هذه الأسئلة: ما هو التدريب؟ لماذا نحتاج للتدريب؟ ما هو منحى التدريب التاريخي؟
وإذا ما دخلنا من ناحية حقيقة العلم تتشكّلبالمصطلحات، فسنبدأ بأصل كلمة التدريب حيث أنّ كلمة التدريب مشتقة من كلمة يونانية ""EDUCERE ، تُستخدم كلمة EDUCERE في تربية ورعاية النبات والحيوان والأطفال، فجميع الفعاليات والأنشطة التي المتعلقة بالرعاية والتربية تقع ضمن نطاق التدريب. تُستخدم كلمة التدريب باللغة التركية(eğitim)(أغيتيم) للتعبير عن الأنشطة والفعاليات المختلفة، وتشتق كلمة التدريب باللغة التركية من جذر الفعل المشتق، وهذا يأتي بمعنى الإشتقاق، التعليم، التحكم والسيطرة، التقليل، الانكسار. فعندما نفكر بانضمام الأتراك للحضارة الطبقية فإنّ مفهوم التدريب يأتي بمعنى التعليم، التذليل، التحكم والسيطرة. اليوم أيضاً جملة " أعطيته درساً" تأتي بمعنى الضرب، فهذه حقيقة ذهنية التدريب في الحضارة الطبقية والمدنية. أما في اللغة العربية تستخدم كلمة التدريب في أنشطة مختلفة، فالتدريب يأتي بمعنى التربية، أي أنّ التدريب هو تربية. أما باللغة الكردية فتأتي كلمة التدريب بمعنى "PERWERDE"، فكلمة التدريب "PERWERDE" تشتق من الجذر "per-wer-kirinê"وتأتي بمعنى النمو والتربية والتعليم. إنّ معناها قريب من مرحلة المجتمع الطبيعي. من جهة المجتمع هذا المعنى أقرب إلى الحقيقة. حينها يوجد معنيان أصليان للتدريب؛ فعندما يكون المعنى الأول الإذلال والاشتقاق والتعليم والسيطرة والتحكم والتحيّز، والمعنى الآخر النمو والتربية فمن جهة المجتمع المعنى الثاني هو المعنى الصحيح للتدريب، بمعنى آخرفإنّ التدريب في الفرد والمجتمع يأتي بمعنى الرأي والنمو والتربية واكتساب المعايير.
السؤال الأساسي هنا من سوف يتطلع للفرد والمجتمع وسيؤهلهم ويربيهم، كيف سيتمّ هذا الأسلوب؟، فبالإجابة على هذه الأسئلة ستتبيّن كيفية التدريب، كما أنها في الحقيقة ستحدد النموذج الذي هو منبر العالم.
النموذج الذي هو منبر الحياة يحدد في الوقت نفسه تقربه من التدريب. يجب أن يكون التدريب هدف الحياة لنيل الحرية، أو أن يكون التدريب إذلالاً، وسيطرة وتحكماً والذي يعني تطوير السلطة.فالهدف من التدريب من ناحية المجتمع الديمقراطي هو إيصال المعلومات وحقيقة الحياة. أمّا من جهة الحضارة المدنية والطبقية فإن التدريب هو تحكم. فهذه الفروق والاختلافات في الأهداف يسبب اختلافاً بالأساليب والطرق أيضاً.
بعد هذا التقييم العام عندما يبحث المرء في تاريخ التدريب بإمكانه أن يرى خطوات كِلا الرأيين. دعونا نوضح في البداية: إنّ تاريخ التدريب قديم كتاريخ البشرية، لذا يجب البدء بتاريخ التدريب مع تاريخ البشرية وبإمكان المرء أن يبيّن التطورات الإيجابية والسلبية الموجودة في تاريخ البشرية ويجدها في تاريخ التدريب. ومع تقدم الإنسان فإنّ الاكتشافات والدلائل العلمية المرتبطة بالغرائز لدى الحيوانات تشكل مرحلة تدريبية. فكيف يعلّم العصفور فراخه، وكيف تعلّم النحلة فراخها على تشكيل العسل، وكيف يعلّم كلب النهر صغاره على تشكيل حاجز أمام الماء. إن هذا التعلم سريع جداً عند الحيوانات مقارنة مع التعلم عند الإنسان الذي يتمّ ببطء وهناك اختلاف في كيفية التعلم أيضاً. حتى مرحلة يتعلم الإنسان حسب فطرته، وعندما يكبر فإنه يكون مسؤولاً عن تعليم نفسه بنفسه من عقله، إنّ العقل يميز الإنسان عن باقي الكائنات، لكنّ العقل هو عبارة عن مادة أو مضمون وعلى الإنسان أن يقوم بتشغيل هذه المادة. فالعقل عبارة عن مُدّخر يُنشط بالتدريب، وهذا يتمّ من خلال التساؤلات والانتقادات.
الإنسان ككائن راقي ومختلف يتعامل مع الحوادث والظواهر المحيطة به بحذر شديد، حيث يراقبها ويستخرج منها النتائج، ويسعى لتحقيق متطلباته واحتياجاته ويكتسب تطورات كبيرة. فالإنسان أعطى أهمية كبيرة للدخول للحياة الاجتماعية، فهي تسهّل الحياة. فبالحياة الاجتماعية ينشأ العقل المشترك أي ما يسمى بالثقافة. المرأة الأم التي بنت المجتمع نقلت هذا العقل والثقافة المشتركة للأجيال الجديدة. الأم المرأة تأتي بمعنى المعلّمة الأولى، ولكنّ المرأة الأم لم يكن غرضها من أجل بناءٍ جيل جديد إنما من أجل تهيئتهم للحياة، لذا فإنّه في كل يوم تحدث مشكلة جديدة، واكتشاف جديد، وتطور جديد. أما تكرار هذه المشاكل والاكتشافات والتطورات لا يمكنها أن تكون إجابة. لذا فالإعلام ليس من أجل تلقين الحفظ، أي أنها لا تعطي علماء فقط بل تحاول أن تعلم الحياة بنفسها. ففي إحدى المصادر يخاطب "إيمانويل كانت" في درسٍ طلابه ويقول: "لن تتعلموا مني أفكاراً جاهزة، إنما ستتعلمون كيفية التفكير". إضافة إلى مقولة أخرى لـ "ماو" تقول: " لا تعطوا أسماكاً لأحدٍ، بل علموهم كيف يصطادون".ففي الحقيقة هذه الأفكار التي هدفها الأساسي التدريب تبين أسلوب الحياة المجتمعية في المجتمع الطبيعي. إن أماكن المرأة الأم التي يتمّ فيها رعاية الجيل الجديد وتربيتهم تكون أمكنة مقدسة، بعدها تتحول لمعابد. فهذه هي وظيفة المعابد في المجتمع الطبيعي، وفي نفس الوقت تكون هذه المعابد كحالة مدارس تلك الفترة. فيتوضح أنّ هدف هذه المعابد ليس من أجل العلم، بل من أجل تهيئة الأفراد وتحضيرهم للحياة. عندما كان م. أ. فيريير يقول: " المدارس التي تقوم فقط بإيصال المعلومة يجب أن يتم ازالتها من الوجود". فإنّه كان يقول الحقيقة.
مع الحضارة فإنّ انتشار الطبقات في المجتمع يتبيّن تأثيره في التدريب أيضاً. من أجل القوى المدنية والطبقية التي تسعى للتحكم بالمجتمع والسيطرة عليها فالتدريب هي أداة للحصول على مطالبها ونسخ كلامهاللغير. فمن خلال الخصائص التي كانت تطبقها في الحياة كالباحث والناقد والمقارن والتي كانت تجدها هلاكاً لها أرادت أن تمحوها من الوسط. وشكلت عوضاً عنها نظاماً بحيث لا تقوم بمراجعة حفظ وتكرار الأبحاث، لا تنقد وتقبلها كما هي، يقبل في الحياة ما لم يتم اختباره وتجريبه. فبهذا الشكل تعزل الإنسان عن التفكير. والأمر الذي يقع على عاتق الناس تنفيذ أقوال الآلهة. وإذا كان العقل يكتسب قيمة من خلال أفكار الآلهة فلا قيمة للعقل حينها، والذي يخالف هذا الأمر يحاسب. فالتاريخ لديه وثائق حول ذلك، وبالتالي فإنّ أي خلل في المجتمع يؤثر على التدريب. وحتى يومنا هذا يستمر في إثبات نفسه.
القوى الحاكمة والطاغية المسيطرة تتبع نموذج التدريب الثاني أساساً لها. فالقوى الحاكمة تقوم بتحويل الأماكن المقدسة والمعابد التي كانت كمدارس للأفراد ولها دور في تهيئة المجتمع إلى زقورات تقوم من خلالها تهيئة بيروقراطييها. وإذا ما قال الإنسان أنّ أنظمة مدارس اليوم أصبحت زقورات فهذا ليس بكثير. مقارنة مع هذا فإنّ المجتمع لم يتخلَّ عن التدريب الذي يهيئ نفسه للحياة.
الكاتب سامويل نوح كرامير هو أول عالم في التاريخ السومري في العالم وصاحب كتاب " التاريخ يبدأ بالسومريين"، حيث فيها يتحدث عما ورد في أحد الألواح عن المدارس: " حفظت لوحاتي، أكلت طعامي، جهّزت لوحتي الجديدة، ملأتها بالكتابة وانتهيت، بعدها توضح وتبيّن لدي الحفظ وبعد الظهر توضحت لديّ الكتابة، وبعد المدرسة ذهبتُ إلى البيت، وجدت والدي جالساً، حدّثته عن عملي الكتابي، بعدها حدّثتُه عن حفظ لوحتي، فرح والدي. عندما استيقظت في الصباح قلتُلأمي:" أعطني طعامي فعليّ الذهاب إلى المدرسة". أعطتني أمي رغيفين صغيرين وذهبت إلى مدرستي. في المدرسة سألني مراقب الدوام 'لماذا تأخرت؟" وبحالة خوف وبازدياد دقات قلبي صادفت معلّمي، انحنيت أمامه وألقيتُ عليه السلام". بعدها قام بكتابة تحليلاته وانتقاداته فيما يخصّ نظام التدريب السومري. " كانت مدارس السومريين بعيدة عن الانجذاب، حيث كانت برامجها صعبة وأساليب التدريب فيها تدبّ الرعب في النفس، وانضباطها لا رحمة فيه. وإذا ما هرب الطلاب من أول فرصة وانقطعوا عن الطريق الصحيح فكيف لا يتعجب المرء من هذا الوضع؟ فهذا يؤدي بنا إلى أول ظاهرة ظلم بحق الشباب التي سجُّلت في التاريخ.
ففي طرائق التدريس لدى السومريين لم يكن هناك خاصية مُطوِّرة التي يمكن للمرء تسميتها كتدريب. وفي موضوع الانضباط لم تكن العصا محببة. يبدو واضحاً أنّ المعلم كان يستعمل الكرباج على ظهر الطلاب في سبيل دفعهم وتشجيعهم على التدريس ولكي يصححوا أخطاءهم. لذا لم يتمتع الطلاب بحياة هنيئة.
هذه اللوحة وشرح الحضارة السومرية الموجودة قبل خمسة آلاف سنة لازالت مستمرة بوجودها من نواحي عدة. حيث يبيّن نفس الكاتب في الأقسام التالية من كتابه: مدارس السومريين تهدف أكثر لتهيئة الكتّاب. إن هذه المدارس مخصصة للصبيان فقط، حيث يتمّ تعليم الطلاب الكتابة المسماريةعلى لوحات. يتألف أعضاء التدريب المدرسة من المعلّم الذي يدعى بـ "والد المدرسة" ومن المعلّم المساعد الذي يدعى بـ"كاك" ومن "معلم الرسم"، ومن" معلّم السومرية"، ومن " موظف الكرباج". إنّ نظام التدريب في المدرسة التي تستخدم وتكتب باللغة السومرية ترتبُ أقوال لغتها حسب الكلمات المرتبطة ببعضها من حيث المعنى والمجموعات الأدبية وتحفّظها للطلاب حيث تعتمد في أسلوبها على تكرار المعلومة ونسخها."
إنّ نظام التدريب السومري الذي لا يأخذ بعين الاعتبار الاجتهاد والموهبة ومتطلبات الناس، بل يقوم على الأَسِر وتلبية القوى الحاكمة،استمرت إلى يومنا هذا مع بعض التغيّرات في أساليبه. ففي نموذج هذا التدريب لا يكون لتطوير لقدرات الإنسان أهمية كبيرة. ومن تبرز لديه القدرة التخيلية يصبح محل سخرية،ولا يُقبل الاختلاف، التكرار هوالأساس. وهي حالة تراجيدية-كوميدية. ألبرت أينشتاينالذي تم طرده من المدرسة بحجة أنه بلا عقل، دُرّستنظرياتهكمواد للتدريب في هذه المدراس.
ففي هذا التدريب الذي أصبح نموذجاُ في مرحلة السومريين، تُغلَق المدارس الأساسية. ليس للطلاب دور فعّال، ويتم التعامل مع الطلاب بهذا الشكل: " إنّه هكذا، ولأنّه هكذا فأنتم مجبرون على أن تتعلموا. لماذا تتعلمون هذا، وكيف وأين ستطبقونها؟ لا تسألوا أبداً". يُقال أنّ هذا العلم المطلق الذي يُعطى للطلاب هو من العلوم الأكثر صحة وحقيقة ويجب ألّا يُسأل عنها، فالسؤال حولها سيؤدي بالإنسان إلى الهلاك والخروج عن الطريق.إنّهم يقومون بذلك من أجل سهولة إدارة المجتمع لأنّ الإنسان الذي يتساءل ويسأل كثيراً لا يمكن إدارته بسهولة.لكن في هذا النظام الذي يعتمد فقط على التكرار والحفظفإنّ التساؤل والأسئلة غير ممكنة، ويتم قبول كل ما يقولونه دون التعليق عليها. إن هذا الأسلوب يسهّل عمل المدرسة والمعلمين. حيث تُوزع قائمة الأمور التي يجب أن يتمّ حفظها على المدارس ويطلبون من الطلاب حفظها، والذين لا يستطيعون حفظها يحاسبون. ففي الحقيقة فإنّ هذا هو الشكل الأساسي للسلطة السياسية. السلطةتقوم بفرض قصائدالدستور التي تلبي مطالبها ومصالحها على المجتمع والتي تُسمى القانون. حيث يُطلب تنفيذها في المجتمع. والأشخاص الذين لا ينفذونها يتم تهديدهم من قِبَل العسكر والشرطة أو تتم محاسبتهم. هذه هي الإدارة السهلة.
استخدم اليونانيون والرومان هذا الأسلوب، ففي مدارس روما واليونان تمّ إعطاء دروس المنطق. ولم يكن الهدف من هذه الدروس تطوير المنطق لدى الطلاب أو تسهيل حياتهم. الأمر الذي يتم أخذه كمبدأ في مدارس اليونانيين هو الانضباط من خلالتقوية عضلات الإنسان. مثال كيف يقوم الشخص الرياضي بتدريب جسمه من أجل تقوية عضلاته وضبتها، فلهذا السبب كان الطلاب يأخذون درس المنطق منأجل تقوية وضبط العقل.
إنّ نظام التدريب هذا كان يطبّق في جميع الأديان تقريباً. ووفقاً لهذا فإنّ الله فكر بالتي هي أحسن وأوصلها عن طريق الوحي لرُسله، والرسل بدورهم أعلنوها لأمّتهم من خلال كتبهم. فالتفكير بغير هذه الأمور حرام ونفاق وكفر، وحرق في نار جهنم. وإيقاف الإمام غزالي باب الاجتهادجاء من هذا المنطق، فإذا آمن الناس بأمور الله والرسل فهذا جيد، وإذا لم يؤمنوا بأمور الله والرسل فالعقل خاطئ ويتمّ التحقيق مع العقل. الطريق الأفضل لمعرفة التدريب الجيد والنافع والذي يسمى بالكردي علم الاثنا عشر بدون شرح أوتساؤل هو حفظ أقوال الله والرسل. فالشخص الذي يحفظ بشكل جيد هو الشخص الجيد. فهذه الحالة توقف التطور والتساؤلولا تقبل الجدل.
وكلّما حاولوا إحياء وتجديد هذا التقرب الدوغمائيفالبرجوازية التي تمسكت بالسيطرة في وقت قصير من أجل استمراريتها سيطرت على كافة المدارس والجامعات وجعلتها أماكِناً لدعاياتها. وبالتالي أصبح التدريب السلاح الأكثر قوة في يد السلطة. فالتدريب الذي يكون في خدمة الدولة القومية ومتحداً مع السلطة ينفصل عن الأخلاق والوجدان، ويتحول لنظام يطوّر العلاقات البرجوازية. لم يكن هدفهم من التدريب تطوير المجتمع بل جعلوا التدريب من أجل إنجاز العمل بشكل أكبر. أي أنّ معيار التدريب تجرّد من أخلاق ووجدان المجتمع وتحول إلى جامع للثروة، ويحتمل أن يكون هذا أكبر إبادة في تاريخ المجتمعات. حيث قضوا على التدريب باسم التدريب. وتقييمُ جان جاك روسو:" اُسلّمكم طفلاً ليس لكي يصبح طبيباً، أو قاضياً، أو راهباً. بل لكي يصبح إنسانا"، يدل على أنّه عاش هذه التهلكة. فالإشارة " إذا مالم يتم تدريب القلب فلن يتم تدريب العقل" يشير إلى هذه التهلكة. أي أنّ التدريب في الأنظمة الحضارية هو تدريب حفظي يفرق بين العقل والوجدان، ويجعل المصلحة في المقدمة، البراغماتية ولأنّها تمنع التساؤل والنقد فهي بذلك تقتل الإبداع والتصميم. ففي بعض الأوطان لا يغيرون هذه الحقيقة...
أراد المجتمع الديمقراطي الذي يصارع في وجه الحضارة المدنية والطبقيةأن يطور ذهنية تدريبه لأنّه بقي تحت هجوم قوى الحضارة المدنية والطبقية، ففي كثير من المرات كانوا يعملون في أماكن مخفية أو تحت الأرض. كان هدفهم الأساسي من هذه التدريبات هو تدريب العقل والقلب معاً، وتهيئة الإنسان من أجل المجتمع والمستقبل ففي هذا المعنى تصبح الحياة نفسها تدريباً، " فكر جيداً، تكلم بشكل جيد، طبق بشكل صحيح" التي كانت تُدرّس في معابد النار الزردشتية هي المعيار الأساسي للتدريب في الأمة الديمقراطية. فهذا التدريب يأخذ شكلاً يوافق احتياجات المجتمع، ويأخذ مصدره من حاجات الحياة. أمّا في ذهنية التدريب للحضارة المدنية والطبقية لا توجد أهميّة لما تقول أو ماذا تريد؟ لا توجد لديك قدرات والأهم هو مطلب أصحاب السلطة.
التدريب الديمقراطي واسع جداً، ففي الحقيقة ذهنية التدريب الديمقراطي مرتبط بكافة مجالات الحياة. فبهذا المعنى يجب أن يقوم بتسهيل الحياة وتجميلها ورفع قيمتها. ولهذا فلا بدّ أن تفكر وتتساءل وتنقد وتجد الحلول للمشاكل، وأن تقف في وجه المشاكل وتأخذ التدابير. نظام التدريب الذي يحسب القدرة والمهارة ومستوى فهمها...هو تدريب ديمقراطي. وهذا يعني أنّ الخاصية الديمقراطية للتدريبات ذات الوصفات الجاهزة التي تعطى لكلّ شخص تكون ضعيفة.
إنّ حالة التدريب التي تحدد ماذا يجب أن يُعطى، وماذا يجب أن يتعلّم الطالب، وأيّ أنواع المعلومات يجب أن تُعطى ليست ديمقراطية. القوى السلطوية تجيب على الأسئلة بنفسها وعلى كافة المعلمين أن يطبّقوها. ففي هذه الحالة يكون الطلاب في حالة سلبية، فهدفُ السلطة بناء مجتمع سلبي. لكن لا يحدث هذا في ذهنية التدريب التي تهدف لمجتمع ديمقراطي. فعوضاً عن هذا تقوم بجعلالطالب محورعمليةالتدريب، ويجب أن يكون المعلّم مساعِد ومسهّل للطالب. ووفقاً لسقراط يجب على المعلم أن يلعب دور الجدّة. ويجب على المعلّم أن يعطي الدرس ليس من أجل أن يقتنعوا به بل من أجل تحفيز عقولهم. ففي تقييم القائد عندما قال:" في أكاديمياتي لا توجد علاقة بين المعلّم والطالب" يبيّن ذلك. فتقوية وتطور الطالب يصبح ممكناً بهذا النظام. فتطور الطالب الذي يستمع لمدرّسه دون أن يسأل غير ممكن. يقول الشيخ بدر الدين:" الطالب الذي لا يتعدّى معلّمه،كأنّه خان العلم".
فهذه الحالة من التدريب يمكن رؤيتها في تاريخ أو مجتمع كردستان. ففي هذه الأراضي ذات الحياة المجتمعية والمركز الأساسي للمجتمع الطبيعي تمّ إعطاء التدريب من ناحية المرأة الأم من أجل توصيل معنى الحياة والتهيئة للحياة. معابد المرأة الآلهة و.. كانتأمثلة لها. ولكنّ احتلال كردستان من قِبل القوى الدولية والطبقية غيّر هذا. فأوّل عمل قاموا به بعد الاحتلال العسكري السيطرة على هذه المعابد وتجريدها من جوهرها، وتحويل الأمكنة المقدّسة للآلهة الأم إلى أماكن لأيديولوجيتها. وهذا الوضع خرّب المجتمع. ولكي يحمي الكرد أنفسهم منها قاموا بالانتقال إلى الجبال العالية والقوية، فقطفي هذه الأماكن استطاعوا أن يديموا وجودهم، وهناك أشعلوا النار التي هي رمز اعتقادهم. سمّىزردشت أماكن العبادة هذه بالمعابد. ففي هذه المعابد التي يتم إشعال النار المقدسة فيها تمّ بناء مدرسة. والأشخاص الذين أرادوا أن يتعلّموا حول معتقدات زردشتويعتنقونها كان يتمّ تدريبهم في هذه المدرسة. وكان يتمّ السؤال عن الله أيضاً في هذه التدريبات. يقول القائد في جزء من مرافعته التي كانت باسم سوسيولوجيا الحرية:" يُروى أنّه عندما كانت تشرق الشمس بكامل نورها من جبال زاغروس التي كان زردشت متعلقاً بها كثيراً، يسمع صوتاً فيرد على ذاك الصوت قائلاً" قل من أنت؟" وهذا يفسر أنه يقابلالله ... أنا أيضاً مؤمن بأنّه يقابل إله ملوك السومريين الذين توجهوا عبر آلاف السنين لحرية شعب زاغروس". هنا مقولة: فكر جيداً، تكلم بشكل جيد، طبق بشكل صحيح. كالقانون الأساسي الذي تم أخذه بعين الاعتبار.
بعد بدأ الهجوم العربي على كردستان فإنّ الكرد انخرطوافي النضاللحماية وجودهم. الطبقة العليا للكرد أنكروا أصلهم وأصبحوا كأعدائهم، أمّا طبقة الشعب التي تشكل الغالبية انتقلوا إلى الجبال العالية والمتينة لكي يحموا أنفسهم. العلوية أثبت نفسها من خلال أخذ أسلوب الأيزيديةواستمروا من خلال إنشاء المشايخ والتكايات.فمن خلال هذه الطقوس التصوفية التي طوروها لم يأهّلوا علماء دين فقط بل أهّلوا علماء قوميين للمجتمع أيضاً. في هذه التدريبات تم التركيز على الخصائص والسمات الأخلاقية للفرد. فقد أرادوا أن يهيئوا الأفراد الذين كانوا يتحلون بالأخلاق. إنّ مبدأ: (احرص على يدك ولسانك وظهرك) في الحقيقة هو تطبيق عملي لمبدأ (أعرف نفسك).
الكرد الذين كان لديهم شك بالنسبة للأماكن الرسمية للقوى السلطوية، يحتمل أنه تمّ التدريب في المدارس. فالمدارس جميعها أصبحت أماكن للتدريب. المدارس التي كانت في البداية كمراكز للتدريب الديني فبعد عام 950 ضمّت علوماً أخرى إليها وأصبحت كمزيج للتدريب. ففي أماكن التدريب هذه التي كانت تأخذ أدب اللغة أساساً لها.طوّرت الكثير من المفكرين الكرد الكبار. الملا الجزيري وأحمد خاني وملا كوراني وجكرخوين والعشرات من المثقفين الكرد تطوروا في هذه الأماكن. في المدارس الكردية لا يوجد الانتقال إلى صف جديد أو البقاء في الصف. فهنا الموضوع الذي يتم العمل فيه هو تشكيل فكر عميق ويتم أخذه كأساس. ولهذا تُكتسب قوة المحاكمة. فهي لا تكتفي بالحفظ فقط، فكلما خضعت المدرسة تحت سيطرة الطريقة النقشبنديةلعبت دوراً مهماً في استمراريتها.
وكنتيجة فالأمر الأساسي الذي يؤدي لاستمرار المجتمع هو التدريب. فمثلما نسد حاجة الإنسان الحيوية للأكل بالأكل فكذلك الحاجة المعنوية تتم بالتدريب. وبالتالي فالتدريب هو إشباع للروح والمعنويات. بالرغم من أن كثرة مؤسسات التدريب في يومنا هذا وإخضاع الإنسان للتدريب إلا أن خلو المعنويات والعطش الروحي متعلق بهذا النظام. حيث يتشكل مجتمع ذو معلومات لكنه بلا وجدان أو روح. الأداة الأهم لبناء هذا المجتمع هو التدريب. وبهذا فإنّ طريق بناء مجتمع وجداني وعادل وديمقراطي ممكن من خلال تطوير ذهنية التدريب وبانضمام الجميع. فمثلما يكون معيار الديمقراطية انضمام الشعب فكذلك معيار التدريب الديمقراطي هو انضمام المجتمع.